* نشر في "المنشور" عدد ١٨ - كانون ثاني ٢٠١٠
ليس من وقت بعيد، كانت الاحتجاجات على الكهرباء وعلى الغلاء تتفاقم على أبواب الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، معقل حزب الله. في ذلك الحين، كَثر المثقفون والمحللون والخبراء الذين أبدوا الحماسة (الفكرية) والعزم (الثقافي) والحزم (السياسي) في قراءة هذه الأمور كونها استنفار لمن هم قليلي الحضارة والثقافة، فكيف بهؤلاء الاحتجاج على انقطاع الكهرباء والغلاء المعيشي بحرق الدواليب!
نشطت أدمغة المثقفين والخبراء هؤلاء، لتشرح أن هؤلاء المحتجين يحرّكهم النَفَس الشيعي، والرغبة الحسينية، وعزم حزب الله على التقليل من هيبة الدولة! كما احتجت أدمغة مفكرة أخرى على الضرر البيئي لحرق الدواليب، واعترض آخرون على الإنفلات الأمني الذي يشجعه هؤلاء المحتجون من خلال صرخاتهم التي لا تلتزم ببروتوكلات الإحتجاج الحضارية!
لكن النقطة الأساسية التي اعتمد كلّ من هذه الأدمغة عليها، هو بالتركيز على أن هذا الإحتجاج هو تمرد طائفي وليس نتيجة لاحتدام الفروقات الطبقية. قام البعض بنعي الطبقات الاقتصادية بكونها مخبأة تحت أطنان من الطين والوحل الطائفي، والتبرير بالاعتماد على أن منطق الارتباط الطائفي هو المحرّك الأساسي لتلك الإحتجاجات.
عندها، قلنا أن هذه الإحتجاجات هي دليل على الإحتدام الطبقي الموجود فعلاً ضمن المجتمع اللبناني، وأجابنا الكثير من هؤلاء المثقفين بأن هذا الأمر غير صحيح وأنّ هذه الاحتجاجات هي ليست إلا محاولة “شيعية” للإنقلاب على النظام ولفرض أمر واقع جديد.
اليوم هذه الإحتجاجات بشكلها وصيغتها ونفَسِها تحصل في منطقة أخرى، في المنية والضنية في شمال لبنان، حيث الأغلبية السنية، يحتجون على انقطاع التيار الكهربائي أيضاً، لم يصعد بعد أي مثقف ليحلل أو ليشرح للشعب المتعطش للثقافة والتحليل السياسي لما يحصل هذا عند السنّة أيضاً!
بالطبع فإنّ صعود وتيرة هذه الإحتجاجات في مناطق مختلفة يؤكد أن هذه الثورات الموضعية ليست ذات طابع طائفي، بل هي نتيجة لتناقضات وفروقات إقتصادية، قد يسعى البعض إلى توجيهها إلى منطق طائفي، ولكن هي في صلبها تصوير لتناقض طبقي قائم في المجتمع بغضّ النظر عن الإنتماء الطائفي، وأن الإحتجاجات هذه يحددها أولاً الصراع الإقتصادي وليس “الثقافة الطائفية”.
هذا بالضبط ما عبّر عنه المتظاهرون في المنية والضنية حيث وجهوا بيانا إلى الحريري لفتوا فيه نظره إلى أن “سكان المناطق والأحياء الميسورة ينعمون بالتيار دائماً لأن لديهم مولّدات خاصة إذا انقطع التيار، بينما نحن أبناء المناطق الفقيرة والريفية نعيش تحت رحمة التقنين، فأين العدالة في تطبيق برنامج التقنين؟” (جريدة الاخبار، عدد الثلاثاء١٩ كانون الثاني ٢٠١٠).
الطبقة والطائفة
إنّ الطائفية أو السياسات الطائفية هي آليات تتبعها الطبقة الحاكمة لاحتواء الإحتدام الطبقي في وضعه ضمن قوالب طائفية، أي إنّ الطائفية ليست بحدّ ذاتها صفة تاريخية مُدمغة في البنيان الاجتماعي، بل هي في صلبها تدخّل من الطبقة الحاكمة الساعية إلى قولبة الصراع الاجتماعي في أطر طائفية. من هنا، إنّ الطائفية ليست بنية اجتماعية بحدّ ذاتها بل إنّها نتاج للتناقض ما بين البنى الفوقية والبنى التحتية للمجتمع الرأسمالي اللبناني.
فالطبقة الحاكمة المسيطرة على البنى الفوقية للمجتمع تسعى للحفاظ على قوامها وعلى سلطتها، وترى أن سلطتها تترابط موضوعياً بمصلحة النظام التي هي قيّمة عليه، أي النظام الرأسمالي/الطائفي. لذا، فإنّ أي تهديد لهذا النظام هو تهديد لسلطتها على المجتمع. ومن هنا فإنّ استمرارها بالحكم مرتبط بقدرتها على فرض»النظام» على المجتمع. فالتنافس البرجوازي القائم ما بين أقسام البرجوازية الحاكمة هو تنافس طائفي، إذ إنّ تكوّن هذه البرجوازية كان قد حصل على قوام طائفية وبشكل غير متوازن فيما بينها. الاختلال في توازن نمو البرجوازية الرأسمالية يعود الى تكوّن الرأسمالية في لبنان في القرن الثامن والتاسع عشر، وكون أن الرأسمالية اللبنانية لم تنشأ من ضمن ظروف ذاتية، بل نتجت تبعاً للتوسّع الرأسمالي الاوروبي الذي رأى أن المدخل الأسهل حينها هو في بناء الجسور مع المؤسسات الدينية، لتصوّره أن المؤسسات الدينية هي التي تستطيع فعلياً بقوّة الدين والسلطة الإلهية، فرض الانضباط على الناس حتى يدخلوا في سوق العمل. وبناء على هذا البنيان السياسي والأيديولوجي لبسط سلطة رأس المال، نشأت البرجوازية الجديدة المعتمدة بشكل أساسي، على هذه العلاقة الأساسية ما بين سلطة الدين والمال، وحقاً، لا خلاف بينهما.
نمط هذه العلاقات شجّع على تبلور العلاقات التنافسية ما بين البرجوازية الصاعدة على أساس صراع اقتصادي ولكن من ضمن أدوات سياسية وأيديولوجية تستخدم الإنتماء الديني الذي تحوّل حينها (أي عند نمو العلاقات الرأسمالية) الى انتماء طائفي.
إنّ استخدام الأدوات الطائفية هدفها نقل الصراع من مستواه الطبقي الموضوعي ضد البرجوازية إلى منطق الصراع القومي/الطائفي، بالضبط كما يبرر ديكتاتور فاشي الإستغلال الإقتصادي من أجل هدف أسمى كـ»المصلحة القومية» أو «مصلحة الامّة». فالعمال تحت هذه الديكتاتورية الفاشية، مثلاً، ليس لديهم أي سبب فعلي (موضوعي) يضعهم ضمن صراع مباشر ضد العمال من أمّة اخرى. هنا تقع صلب الحجّة البرجوازية القومية، والتي تقول أن استمرار الرفاهية الإقتصادية في الأمة يقع على مدى قدرة الأمة في تحقيق الانتصار على غيرها. لكن هذا المنطق عار عن الصحة، وإنّ ما يُعنى بالرفاه القومي هو فعلياً رفاه البرجوازية القومية، أو ما يسمّى بالبرجوازية الوطنية.
من هنا نستطيع رؤية كيف أن السياسات والأدوات الطائفية تلعب نفس هذا الدور وأن الصراع الطائفي هو فعلياً صراع اقتصادي/سياسي ما بين برجوازيات طائفية، تسعى إلى حماية نفسها من الصراع الطبقي في وضع المجتمع ككل في حالة حرب طائفية دائمة، تسعى إلى تأليب العامل الشيعي ضد العامل السني والعامل المسيحي ضد العامل المسلم، وهكذا دواليك. لكن الصورة لا تكتمل هنا، فمن خلال العيش سوياً على مدى العشرات من السنين، لم تستطع البرجوازيات الطائفية الحفاظ على النقاء الطائفي في صفوف العمال التي توظفهم من أجل إنتاج ثرواتها، بل اضطرت لأسباب ديموغرافية وإقتصادية استثمارية (اختلاف القدرة التوظيفية ما بين القطاعات الاقتصادية) موضوعية، إلى توظيف عمال من طوائف أخرى، ولكن بنسب متفاوتة، أي إن هناك برجوازيات طائفية استطاعت أن تحصر قسماً كبيراً من قدرتها التوظيفية في العمّال التابعين للطائفة نفسها، بينما برجوازيات أخرى لم تستطع. مما أدّى إلى استعمال هذه البرجوازيات أدوات طائفية تارة وأدوات وطنية قومية تارة أخرى، وهنا نرى كم هو سريع الانتقال لدى الكثير من السياسيين من المنطق الوطني (اللبناني) إلى المنطق الطائفي خلال ثوان معدودة.
إذاً، فمن الطبيعي أن تكون الدولة الحديثة/البرجوازية اللبنانية تتأرجح دوماً ما بين مصلحة البرجوازية الطائفية في فرض سلطانها على مستوى طائفي (المحاصصة) وبين مصلحتها مجتمعة (البرجوازيات الطائفية في توافقها فيما بينها) في فرض سلطتها على المجتمع ككل (أي على مستوى وطني).
هذا الواقع لا يخرج عن التعريف الماركسي لدور الدولة كما وضعه إنجلس في كتابه «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»: «الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدّعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوّره؛ الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حلّه، وانقسامه إلى أضداد مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها، ولكيلا تقوم هذه الأضداد، هذه الطبقات ذات المصالح الطبقية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً والمجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة» (ص ١٧٧-١٧٨ من الطبعة الألمانية السادسة)». (http://lenin.public-archive.net/ar/L2605ar.html)
لكن دور الدولة الطبقية لا يحتّم عليها الانتظام على أسس برجوازية وطنية جامعة بل تنتظم على أسس التنافس البرجوازي القائم ما بين أقسام البرجوازية المسيطرة، وإذا لم يكن كذلك فلما الحاجة الى الانتخابات والصراع السياسي؟
بناء على ذلك نستطيع أن نرى بوضوح ماهية الاتفاقيات التوافقية/التنافسية التي من جهة تضع سلطة توافقية على المجتمع ككل، يتم ترجمته من خلال التنازلات عن مناطق نفوذ اقتصادية وأمنية معينة (سماح حزب الله لقوى الامن دخول الضاحية الجنوبية لإزالة المخالفات، تراجع الحريري عن جمهوره في ما يتعلق بتأمين التيار الكهربائي بشكل متواصل في المنية والضنية، أو مثلاً عون في تخلّيه عن موقفه الرافض لسلاح حزب الله لدى عودته من المنفى)؛ والتقاسم والتحاصص يحفظ حقّهم في التنافس البرجوازي الطائفي فيما بينهم.
نعود إلى قضية الكهرباء في المنية والضنية وكيف ردّت الطبقة الحاكمة من خلال نوابها على الموضوع. نشرت الأخبار في عددها يوم الثلاثاء ١٩ كانون الثاني ٢٠١٠ ردّ اللجنة المتابعة للقضية المؤلّفة من نواب من المعارضة والموالاة، والتي في بادئ الأمر رفضت قرار التقنين ولكن سرعان ما تراجعت عنه ولخّصت سبب تراجعها بالكلمات التالية : «ما واجهَنا به الحريري وباسيل جعلنا غير قادرين على التمسك بمطلبنا، لأن الأول طلب منا تسهيل تطبيق البرنامج كي لا يظهر أن إحدى مناطق نفوذه تعرقل انطلاقة حكومته، ما سيفتح عليه اعتراضات الآخرين، ومطالبتهم إيّاه بمعاملة مناطق أخرى بالمثل. فيما صارحَنا باسيل بأن جباية فواتير الكهرباء في المنية متدنية جداً، وأن حصول المنية وغيرها على التيار بطريقة دائمة سيؤثّر في تزويد العاصمة بحاجتها منه».
هذه الصورة ليست جامدة، لأن المصالح البرجوازية ليست بالضرورة محصورة ضمن قطب واحد في كل طائفة، كما نرى في معظم الطوائف اللبنانية، فهناك من يريد التحاصص والتوافق لكن ضمن شروط مختلفة (الفدرالية الطائفية كما يروّج لها سامي الجميّل مثلاً) وهناك من يرى أنه لا يقدر على المنافسة ضمن الأطر التمثيلية الطائفية الحالية، فيطرح إلغاء الطائفية السياسية (كنبيه بري مثلاً)، وليس إلغاء النظام الطائفي ككل لأنه بحاجة إليه لضمان الانضباط داخل الطائفة.
السؤال هنا ليس اذا ما الطبقة موجودة فعلاً، بل اذا ما كانت الطائفة موجودة فعلاً؟
إن المسألة الطائفية ليست كما تصوّرها الطبقة الحاكمة بأنها عبارة عن منطق متأصّل في النفوس، بل هي نمط أساسي في إطار بسط السلطة الرأسمالية وانعكاس للتنافس الإقتصادي/السياسي ما بين أقطاب البرجوازيات الطائفية على المجتمع، وهذا الانعكاس ليس محصوراً فقط بالسياسة أو بالإعلام بل هو أيضاً رزمة كبيرة من السياسات الاقتصادية والرشوات المشرّعة من خلال جهاز الدولة بهدف خلق علاقات اعتمادية اقتصادية واجتماعية ما بين البرجوازية الطائفية والعمال، إن كان ذلك من خلال مؤسسات الدولة (التوظيف الطائفي وتقاسم المناصب على مستوى طائفي) أو من خارجها (ضخ الأموال على أسس طائفية من خلال القطاع الخاص ومن خلال المؤسسات الدينية والخيرية). كل هذه الأساليب هي لاحتواء للناس وربط مصيرهم وترقيتهم الإقتصادية من خلال الأطر الطائفية.
لذا، فإن الطوائف ليست بنىً بحد ذاتها، بل هي مجموع العلاقات الاعتمادية والزبونية التي تستخدمها البرجوازية الحاكمة (في تحالفها مع المؤسسات الدينية، التي تكون إما خاضعة للبرجوازية أو مخضِعة لها أو على علاقة متوازنة معها) لبسط سيطرتها على الطبقة العاملة والطبقات المحرومة، وللحفاظ على سلطتها وعلى النظام الطبقي القائم.
هنا الإعتراض الأساسي على تعريف فواز طرابلسي للطوائف كونها: «بنى تخترق كل مناحي الحياة الاجتماعية وتتدخل في توزيع العمل (حصص الطوائف في الوظيفة العامة) وخدمات الدولة والموارد وتوزيع الثروة بين المناطق والفئات الاجتماعية. والطوائف بما هي شبكات محسوبية وتعبئة اجتماعية تولّد الامتيازات الصغيرة والحرمانات الصغيرة والتفاوت في الفرص وفي حظوظ الترقّي الاجتماعي من خلال الدولة (كما من خلال أدوارها المجتمعية في حقول التعليم والصحة والإحسان وسواها). لكن هذه الإمتيازات والحرمانات تتمّ جميعها داخل الإنقسامات والفوارق الطبقية الكبرى. لا بمعزل عنها. ولا هي تتمّ قطعاً بالنيابة عنها. هكذا تلعب الفروقات الطائفية ــــ الاجتماعية الصغيرة دورها في تمويه الانقسامات الطبقية الكبرى». (جريدة الاخبار، ١٩ كانون الثاني ٢٠١٠، فواز طرابلسي في ردّه على التقرير الذي نشرته «الأخبار» (١٦ كانون الثاني الجاري) عن محاضرة له تحت عنوان «هل توجد طبقات اجتماعية في لبنان؟»)
إن الطائفة لا وجود لها موضوعياً، بينما الطبقة موجودة موضوعياً لكونها نتيجة تناقضات ماديّة فعلية. أما الطائفة فيحدد وجودها تبعاً لعلاقات اعتمادية إقتصادية وسياسية واجتماعية، تنتجها سياسات ومصالح اقتصادية وسياسية. لذا فإن الطائفة ليست بنية في المجتمع، بالضبط كما شركة تجارية ما ليست بنية اجتماعية أو إقتصادية، بل هي شبكة من العلاقات التبادل الاقتصادية، وتقسِّمها كما تقسِّم الطائفة تناقضات طبقية موجودة موضوعياً.
الطائفية لا تنتهي من خلال الترميم البرجوازي، بل من خلال الثورة الاشتراكية
إن التخلّص من الطائفية لا يمكن أن يكون نتاج البرجوازية الطائفية نفسها، بل إن التخلّص منها لا يتمّ إلا من خلال تأجيج الصراع الطبقي بوجه البرجوازيات الطائفية وبوجه النظام والدولة البرجوازية ككلّ، والفصل فيما بينهما هو كالفصل ما بين القنّاص وسلاحه، إن تجريد القناص من السلاح، لن يمنعه من الإتيان بسلاح آخر، والتخلّص من القناص من دون التخلّص من السلاح لن يمنع قناصاً آخر من استعماله.
وهنا يتلازم منطق التخلّص من النظام الطائفي في صلب سيرورة بناء الثورة العمالية الاشتراكية، بالضبط كما يتلاصق مفهوم التخلّص من العنصرية مع منطق التحرر العمالي. الطائفية هي السلاح الأبرز لدى الطبقة البرجوازية الحاكمة في ضرب نمو الوعي الطبقي، لذا على اليسار الربط ما بين الصراع الطبقي والصراع ضد النظام الطائفي، وليس من خلال نشر الأوهام عن وجود برجوازية وطنية قد تستطيع أن تخلّصنا من شرّ الطائفية.
إنّ مصلحة الطبقة العاملة في تحررها من القمع والاستغلال يترتب عليها بأن تتلاحم فيما بينها (على مستوى الوعي الطبقي والسياسي) في رفضها للسياسات ونهج التفرقة الطائفية، وأن تقوم بتوجيه سخطها ضد البرجوازيات الطائفية وحلفائها من المؤسسات الدينية والدولة. إن المنطق القائل بأن الدولة البرجوازية يمكن ترميمها أو إعادة صياغتها على أسس وطنية هو منطق يسعى إلى تأخير نمو الصراع الطبقي وليس إلى تأجيجه.
التغيير لن يبدأ من خلال التراضي أو إعطاء النصائح للبرجوازية، بل بمواجهتها بشكل مباشر، ومن خلال بناء الاطر التنظيمية القادرة على تصويب تلك المواجهة، وهنا ضرورة بناء التنظيم الثوري القادر على هذه المهمة والذي يستطيع النظر إلى التناقضات الطبقية التي تنشأ ضمن شبكة العلاقات الطائفية وعلى المستوى الوطني والربط فيما بينها، إذ إنّ اندحار الطائفية داخل الطبقة العاملة، لا يتمّ إلا من خلال صراعها ضد النظام الرأسمالي القائم وضد البرجوازية الحاكمة ومن خلال الاستيلاء الثوري على السلطة السياسية حتى تندثر هذه الاخيرة (الدولة) أمام نمو قدرة الطبقة العاملة على تنظيم نفسها ضمن المجتمع الإشتراكي الجديد.
ومن يحرق الدواليب اليوم في الضاحية الجنوبية أو في المنية، أو في أية بقعة أخرى، هو من يحمل نواة السيرورة الثورية التي تستطيع ان تنهي النظام الطائفي.
باسم شيت - المنشور، عدد ١٨، كانون الثاني ٢٠١٠
ليس من وقت بعيد، كانت الاحتجاجات على الكهرباء وعلى الغلاء تتفاقم على أبواب الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، معقل حزب الله. في ذلك الحين، كَثر المثقفون والمحللون والخبراء الذين أبدوا الحماسة (الفكرية) والعزم (الثقافي) والحزم (السياسي) في قراءة هذه الأمور كونها استنفار لمن هم قليلي الحضارة والثقافة، فكيف بهؤلاء الاحتجاج على انقطاع الكهرباء والغلاء المعيشي بحرق الدواليب!
نشطت أدمغة المثقفين والخبراء هؤلاء، لتشرح أن هؤلاء المحتجين يحرّكهم النَفَس الشيعي، والرغبة الحسينية، وعزم حزب الله على التقليل من هيبة الدولة! كما احتجت أدمغة مفكرة أخرى على الضرر البيئي لحرق الدواليب، واعترض آخرون على الإنفلات الأمني الذي يشجعه هؤلاء المحتجون من خلال صرخاتهم التي لا تلتزم ببروتوكلات الإحتجاج الحضارية!
لكن النقطة الأساسية التي اعتمد كلّ من هذه الأدمغة عليها، هو بالتركيز على أن هذا الإحتجاج هو تمرد طائفي وليس نتيجة لاحتدام الفروقات الطبقية. قام البعض بنعي الطبقات الاقتصادية بكونها مخبأة تحت أطنان من الطين والوحل الطائفي، والتبرير بالاعتماد على أن منطق الارتباط الطائفي هو المحرّك الأساسي لتلك الإحتجاجات.
عندها، قلنا أن هذه الإحتجاجات هي دليل على الإحتدام الطبقي الموجود فعلاً ضمن المجتمع اللبناني، وأجابنا الكثير من هؤلاء المثقفين بأن هذا الأمر غير صحيح وأنّ هذه الاحتجاجات هي ليست إلا محاولة “شيعية” للإنقلاب على النظام ولفرض أمر واقع جديد.
اليوم هذه الإحتجاجات بشكلها وصيغتها ونفَسِها تحصل في منطقة أخرى، في المنية والضنية في شمال لبنان، حيث الأغلبية السنية، يحتجون على انقطاع التيار الكهربائي أيضاً، لم يصعد بعد أي مثقف ليحلل أو ليشرح للشعب المتعطش للثقافة والتحليل السياسي لما يحصل هذا عند السنّة أيضاً!
بالطبع فإنّ صعود وتيرة هذه الإحتجاجات في مناطق مختلفة يؤكد أن هذه الثورات الموضعية ليست ذات طابع طائفي، بل هي نتيجة لتناقضات وفروقات إقتصادية، قد يسعى البعض إلى توجيهها إلى منطق طائفي، ولكن هي في صلبها تصوير لتناقض طبقي قائم في المجتمع بغضّ النظر عن الإنتماء الطائفي، وأن الإحتجاجات هذه يحددها أولاً الصراع الإقتصادي وليس “الثقافة الطائفية”.
هذا بالضبط ما عبّر عنه المتظاهرون في المنية والضنية حيث وجهوا بيانا إلى الحريري لفتوا فيه نظره إلى أن “سكان المناطق والأحياء الميسورة ينعمون بالتيار دائماً لأن لديهم مولّدات خاصة إذا انقطع التيار، بينما نحن أبناء المناطق الفقيرة والريفية نعيش تحت رحمة التقنين، فأين العدالة في تطبيق برنامج التقنين؟” (جريدة الاخبار، عدد الثلاثاء١٩ كانون الثاني ٢٠١٠).
الطبقة والطائفة
إنّ الطائفية أو السياسات الطائفية هي آليات تتبعها الطبقة الحاكمة لاحتواء الإحتدام الطبقي في وضعه ضمن قوالب طائفية، أي إنّ الطائفية ليست بحدّ ذاتها صفة تاريخية مُدمغة في البنيان الاجتماعي، بل هي في صلبها تدخّل من الطبقة الحاكمة الساعية إلى قولبة الصراع الاجتماعي في أطر طائفية. من هنا، إنّ الطائفية ليست بنية اجتماعية بحدّ ذاتها بل إنّها نتاج للتناقض ما بين البنى الفوقية والبنى التحتية للمجتمع الرأسمالي اللبناني.
فالطبقة الحاكمة المسيطرة على البنى الفوقية للمجتمع تسعى للحفاظ على قوامها وعلى سلطتها، وترى أن سلطتها تترابط موضوعياً بمصلحة النظام التي هي قيّمة عليه، أي النظام الرأسمالي/الطائفي. لذا، فإنّ أي تهديد لهذا النظام هو تهديد لسلطتها على المجتمع. ومن هنا فإنّ استمرارها بالحكم مرتبط بقدرتها على فرض»النظام» على المجتمع. فالتنافس البرجوازي القائم ما بين أقسام البرجوازية الحاكمة هو تنافس طائفي، إذ إنّ تكوّن هذه البرجوازية كان قد حصل على قوام طائفية وبشكل غير متوازن فيما بينها. الاختلال في توازن نمو البرجوازية الرأسمالية يعود الى تكوّن الرأسمالية في لبنان في القرن الثامن والتاسع عشر، وكون أن الرأسمالية اللبنانية لم تنشأ من ضمن ظروف ذاتية، بل نتجت تبعاً للتوسّع الرأسمالي الاوروبي الذي رأى أن المدخل الأسهل حينها هو في بناء الجسور مع المؤسسات الدينية، لتصوّره أن المؤسسات الدينية هي التي تستطيع فعلياً بقوّة الدين والسلطة الإلهية، فرض الانضباط على الناس حتى يدخلوا في سوق العمل. وبناء على هذا البنيان السياسي والأيديولوجي لبسط سلطة رأس المال، نشأت البرجوازية الجديدة المعتمدة بشكل أساسي، على هذه العلاقة الأساسية ما بين سلطة الدين والمال، وحقاً، لا خلاف بينهما.
نمط هذه العلاقات شجّع على تبلور العلاقات التنافسية ما بين البرجوازية الصاعدة على أساس صراع اقتصادي ولكن من ضمن أدوات سياسية وأيديولوجية تستخدم الإنتماء الديني الذي تحوّل حينها (أي عند نمو العلاقات الرأسمالية) الى انتماء طائفي.
إنّ استخدام الأدوات الطائفية هدفها نقل الصراع من مستواه الطبقي الموضوعي ضد البرجوازية إلى منطق الصراع القومي/الطائفي، بالضبط كما يبرر ديكتاتور فاشي الإستغلال الإقتصادي من أجل هدف أسمى كـ»المصلحة القومية» أو «مصلحة الامّة». فالعمال تحت هذه الديكتاتورية الفاشية، مثلاً، ليس لديهم أي سبب فعلي (موضوعي) يضعهم ضمن صراع مباشر ضد العمال من أمّة اخرى. هنا تقع صلب الحجّة البرجوازية القومية، والتي تقول أن استمرار الرفاهية الإقتصادية في الأمة يقع على مدى قدرة الأمة في تحقيق الانتصار على غيرها. لكن هذا المنطق عار عن الصحة، وإنّ ما يُعنى بالرفاه القومي هو فعلياً رفاه البرجوازية القومية، أو ما يسمّى بالبرجوازية الوطنية.
من هنا نستطيع رؤية كيف أن السياسات والأدوات الطائفية تلعب نفس هذا الدور وأن الصراع الطائفي هو فعلياً صراع اقتصادي/سياسي ما بين برجوازيات طائفية، تسعى إلى حماية نفسها من الصراع الطبقي في وضع المجتمع ككل في حالة حرب طائفية دائمة، تسعى إلى تأليب العامل الشيعي ضد العامل السني والعامل المسيحي ضد العامل المسلم، وهكذا دواليك. لكن الصورة لا تكتمل هنا، فمن خلال العيش سوياً على مدى العشرات من السنين، لم تستطع البرجوازيات الطائفية الحفاظ على النقاء الطائفي في صفوف العمال التي توظفهم من أجل إنتاج ثرواتها، بل اضطرت لأسباب ديموغرافية وإقتصادية استثمارية (اختلاف القدرة التوظيفية ما بين القطاعات الاقتصادية) موضوعية، إلى توظيف عمال من طوائف أخرى، ولكن بنسب متفاوتة، أي إن هناك برجوازيات طائفية استطاعت أن تحصر قسماً كبيراً من قدرتها التوظيفية في العمّال التابعين للطائفة نفسها، بينما برجوازيات أخرى لم تستطع. مما أدّى إلى استعمال هذه البرجوازيات أدوات طائفية تارة وأدوات وطنية قومية تارة أخرى، وهنا نرى كم هو سريع الانتقال لدى الكثير من السياسيين من المنطق الوطني (اللبناني) إلى المنطق الطائفي خلال ثوان معدودة.
إذاً، فمن الطبيعي أن تكون الدولة الحديثة/البرجوازية اللبنانية تتأرجح دوماً ما بين مصلحة البرجوازية الطائفية في فرض سلطانها على مستوى طائفي (المحاصصة) وبين مصلحتها مجتمعة (البرجوازيات الطائفية في توافقها فيما بينها) في فرض سلطتها على المجتمع ككل (أي على مستوى وطني).
هذا الواقع لا يخرج عن التعريف الماركسي لدور الدولة كما وضعه إنجلس في كتابه «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»: «الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدّعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوّره؛ الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حلّه، وانقسامه إلى أضداد مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها، ولكيلا تقوم هذه الأضداد، هذه الطبقات ذات المصالح الطبقية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً والمجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة» (ص ١٧٧-١٧٨ من الطبعة الألمانية السادسة)». (http://lenin.public-archive.net/ar/L2605ar.html)
لكن دور الدولة الطبقية لا يحتّم عليها الانتظام على أسس برجوازية وطنية جامعة بل تنتظم على أسس التنافس البرجوازي القائم ما بين أقسام البرجوازية المسيطرة، وإذا لم يكن كذلك فلما الحاجة الى الانتخابات والصراع السياسي؟
بناء على ذلك نستطيع أن نرى بوضوح ماهية الاتفاقيات التوافقية/التنافسية التي من جهة تضع سلطة توافقية على المجتمع ككل، يتم ترجمته من خلال التنازلات عن مناطق نفوذ اقتصادية وأمنية معينة (سماح حزب الله لقوى الامن دخول الضاحية الجنوبية لإزالة المخالفات، تراجع الحريري عن جمهوره في ما يتعلق بتأمين التيار الكهربائي بشكل متواصل في المنية والضنية، أو مثلاً عون في تخلّيه عن موقفه الرافض لسلاح حزب الله لدى عودته من المنفى)؛ والتقاسم والتحاصص يحفظ حقّهم في التنافس البرجوازي الطائفي فيما بينهم.
نعود إلى قضية الكهرباء في المنية والضنية وكيف ردّت الطبقة الحاكمة من خلال نوابها على الموضوع. نشرت الأخبار في عددها يوم الثلاثاء ١٩ كانون الثاني ٢٠١٠ ردّ اللجنة المتابعة للقضية المؤلّفة من نواب من المعارضة والموالاة، والتي في بادئ الأمر رفضت قرار التقنين ولكن سرعان ما تراجعت عنه ولخّصت سبب تراجعها بالكلمات التالية : «ما واجهَنا به الحريري وباسيل جعلنا غير قادرين على التمسك بمطلبنا، لأن الأول طلب منا تسهيل تطبيق البرنامج كي لا يظهر أن إحدى مناطق نفوذه تعرقل انطلاقة حكومته، ما سيفتح عليه اعتراضات الآخرين، ومطالبتهم إيّاه بمعاملة مناطق أخرى بالمثل. فيما صارحَنا باسيل بأن جباية فواتير الكهرباء في المنية متدنية جداً، وأن حصول المنية وغيرها على التيار بطريقة دائمة سيؤثّر في تزويد العاصمة بحاجتها منه».
هذه الصورة ليست جامدة، لأن المصالح البرجوازية ليست بالضرورة محصورة ضمن قطب واحد في كل طائفة، كما نرى في معظم الطوائف اللبنانية، فهناك من يريد التحاصص والتوافق لكن ضمن شروط مختلفة (الفدرالية الطائفية كما يروّج لها سامي الجميّل مثلاً) وهناك من يرى أنه لا يقدر على المنافسة ضمن الأطر التمثيلية الطائفية الحالية، فيطرح إلغاء الطائفية السياسية (كنبيه بري مثلاً)، وليس إلغاء النظام الطائفي ككل لأنه بحاجة إليه لضمان الانضباط داخل الطائفة.
السؤال هنا ليس اذا ما الطبقة موجودة فعلاً، بل اذا ما كانت الطائفة موجودة فعلاً؟
إن المسألة الطائفية ليست كما تصوّرها الطبقة الحاكمة بأنها عبارة عن منطق متأصّل في النفوس، بل هي نمط أساسي في إطار بسط السلطة الرأسمالية وانعكاس للتنافس الإقتصادي/السياسي ما بين أقطاب البرجوازيات الطائفية على المجتمع، وهذا الانعكاس ليس محصوراً فقط بالسياسة أو بالإعلام بل هو أيضاً رزمة كبيرة من السياسات الاقتصادية والرشوات المشرّعة من خلال جهاز الدولة بهدف خلق علاقات اعتمادية اقتصادية واجتماعية ما بين البرجوازية الطائفية والعمال، إن كان ذلك من خلال مؤسسات الدولة (التوظيف الطائفي وتقاسم المناصب على مستوى طائفي) أو من خارجها (ضخ الأموال على أسس طائفية من خلال القطاع الخاص ومن خلال المؤسسات الدينية والخيرية). كل هذه الأساليب هي لاحتواء للناس وربط مصيرهم وترقيتهم الإقتصادية من خلال الأطر الطائفية.
لذا، فإن الطوائف ليست بنىً بحد ذاتها، بل هي مجموع العلاقات الاعتمادية والزبونية التي تستخدمها البرجوازية الحاكمة (في تحالفها مع المؤسسات الدينية، التي تكون إما خاضعة للبرجوازية أو مخضِعة لها أو على علاقة متوازنة معها) لبسط سيطرتها على الطبقة العاملة والطبقات المحرومة، وللحفاظ على سلطتها وعلى النظام الطبقي القائم.
هنا الإعتراض الأساسي على تعريف فواز طرابلسي للطوائف كونها: «بنى تخترق كل مناحي الحياة الاجتماعية وتتدخل في توزيع العمل (حصص الطوائف في الوظيفة العامة) وخدمات الدولة والموارد وتوزيع الثروة بين المناطق والفئات الاجتماعية. والطوائف بما هي شبكات محسوبية وتعبئة اجتماعية تولّد الامتيازات الصغيرة والحرمانات الصغيرة والتفاوت في الفرص وفي حظوظ الترقّي الاجتماعي من خلال الدولة (كما من خلال أدوارها المجتمعية في حقول التعليم والصحة والإحسان وسواها). لكن هذه الإمتيازات والحرمانات تتمّ جميعها داخل الإنقسامات والفوارق الطبقية الكبرى. لا بمعزل عنها. ولا هي تتمّ قطعاً بالنيابة عنها. هكذا تلعب الفروقات الطائفية ــــ الاجتماعية الصغيرة دورها في تمويه الانقسامات الطبقية الكبرى». (جريدة الاخبار، ١٩ كانون الثاني ٢٠١٠، فواز طرابلسي في ردّه على التقرير الذي نشرته «الأخبار» (١٦ كانون الثاني الجاري) عن محاضرة له تحت عنوان «هل توجد طبقات اجتماعية في لبنان؟»)
إن الطائفة لا وجود لها موضوعياً، بينما الطبقة موجودة موضوعياً لكونها نتيجة تناقضات ماديّة فعلية. أما الطائفة فيحدد وجودها تبعاً لعلاقات اعتمادية إقتصادية وسياسية واجتماعية، تنتجها سياسات ومصالح اقتصادية وسياسية. لذا فإن الطائفة ليست بنية في المجتمع، بالضبط كما شركة تجارية ما ليست بنية اجتماعية أو إقتصادية، بل هي شبكة من العلاقات التبادل الاقتصادية، وتقسِّمها كما تقسِّم الطائفة تناقضات طبقية موجودة موضوعياً.
الطائفية لا تنتهي من خلال الترميم البرجوازي، بل من خلال الثورة الاشتراكية
إن التخلّص من الطائفية لا يمكن أن يكون نتاج البرجوازية الطائفية نفسها، بل إن التخلّص منها لا يتمّ إلا من خلال تأجيج الصراع الطبقي بوجه البرجوازيات الطائفية وبوجه النظام والدولة البرجوازية ككلّ، والفصل فيما بينهما هو كالفصل ما بين القنّاص وسلاحه، إن تجريد القناص من السلاح، لن يمنعه من الإتيان بسلاح آخر، والتخلّص من القناص من دون التخلّص من السلاح لن يمنع قناصاً آخر من استعماله.
وهنا يتلازم منطق التخلّص من النظام الطائفي في صلب سيرورة بناء الثورة العمالية الاشتراكية، بالضبط كما يتلاصق مفهوم التخلّص من العنصرية مع منطق التحرر العمالي. الطائفية هي السلاح الأبرز لدى الطبقة البرجوازية الحاكمة في ضرب نمو الوعي الطبقي، لذا على اليسار الربط ما بين الصراع الطبقي والصراع ضد النظام الطائفي، وليس من خلال نشر الأوهام عن وجود برجوازية وطنية قد تستطيع أن تخلّصنا من شرّ الطائفية.
إنّ مصلحة الطبقة العاملة في تحررها من القمع والاستغلال يترتب عليها بأن تتلاحم فيما بينها (على مستوى الوعي الطبقي والسياسي) في رفضها للسياسات ونهج التفرقة الطائفية، وأن تقوم بتوجيه سخطها ضد البرجوازيات الطائفية وحلفائها من المؤسسات الدينية والدولة. إن المنطق القائل بأن الدولة البرجوازية يمكن ترميمها أو إعادة صياغتها على أسس وطنية هو منطق يسعى إلى تأخير نمو الصراع الطبقي وليس إلى تأجيجه.
التغيير لن يبدأ من خلال التراضي أو إعطاء النصائح للبرجوازية، بل بمواجهتها بشكل مباشر، ومن خلال بناء الاطر التنظيمية القادرة على تصويب تلك المواجهة، وهنا ضرورة بناء التنظيم الثوري القادر على هذه المهمة والذي يستطيع النظر إلى التناقضات الطبقية التي تنشأ ضمن شبكة العلاقات الطائفية وعلى المستوى الوطني والربط فيما بينها، إذ إنّ اندحار الطائفية داخل الطبقة العاملة، لا يتمّ إلا من خلال صراعها ضد النظام الرأسمالي القائم وضد البرجوازية الحاكمة ومن خلال الاستيلاء الثوري على السلطة السياسية حتى تندثر هذه الاخيرة (الدولة) أمام نمو قدرة الطبقة العاملة على تنظيم نفسها ضمن المجتمع الإشتراكي الجديد.
ومن يحرق الدواليب اليوم في الضاحية الجنوبية أو في المنية، أو في أية بقعة أخرى، هو من يحمل نواة السيرورة الثورية التي تستطيع ان تنهي النظام الطائفي.
باسم شيت - المنشور، عدد ١٨، كانون الثاني ٢٠١٠